ثقافة الدورة 78 لمهرجان كان السينمائي: التونسية أريج السحيري تفتتح متألّقة قسم "نظرة ما"

بقلم الناقد السينمائي طاهر الشيخاوي
"سماء بلا أرض"، الذي افتتح قسم "نظرة ما" للدورة 78 لمهرجان كان السينمائي، شريط يحمل عنوانه حملا وجيها وجميلا.
تتألق المخرجة التونسية أريج السحيري من جديد مثبتتا طريقها في تناغم متميّز مع أفلامها السابقة، مؤكدة صفتها كمؤلفة تحمل فعلا، شكلا ومضمونا، عالما متناسقا. فمنذ شريطها القصير "فايس بوك من أجل أبي" مإنفكت تسائل علاقة افراد العائلة الواحدة بين بعضهما البعض وعلاقة الشخصيات بالأرض في زمن تفككت فيه علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالأرض. انطلقت من فضائها العائلي ("فايس بوك من أجل أبي") ومرّت متحركة ("عالسكة") بفضاء بلدها ("تحت الشجرة")، وها هي الآن تُوسع نطاق بحثها في شريطها الأخير "سماء بلا أرض".
تُعمّق السؤال و تُوّسع مجال سيرورتها مجددة أشكالها التعبيرية.
شخصيات ثلاث، نساء، يبحثن عن طريق، بالمعنى الأول والثاني والثالث للكلمة، في سياق تونسي معاصر وانطلاقا من أحداث يمكن التثبت بسهولة من وقوعها. ماريا، قسيسة إنجيلية (آيسي مايغا) وجولي، طالبة بكلية الهندسة وناني (ديبورا كريستين لوبي) تاجرة تشتغل في السوق الموازية، كلّهن من ساحل العاج، يجدن أنفسهن في مكان ما بتونس. أعمارهن متفاوتة، مختلفات خَلقا وخُلقا، يقطنُنّ في منزل ماريا الذي تستعمله هذه الأخيرة ككنيسة إنجيلية.
يبدأ الشريط في حمام المنزل حول فتاة كنزة (هكذا لقّـبنها)، نجت من الموت بعد غرق سفينة تحمل مهاجرين قادمين من الجنوب. يسألنها عن ظروف غرق المركبة في الوقت الذي يشاركن ماريا في مساعدتها على الاستحمام. المشهد يلخّص الشريط بأكمله. تجيب كنزة على الأسئلة القادمة في غير ترتيب، من هنا وهناك بكلام منقوص ومبهم، شظايا حكي يصعب تجميعه وتركيبه.
هكذا ينطلق الشريط ويتواصل الحكي، نلتقط لحظات من حياة هؤلاء العابرين وكأننا في فيلم تسجيلي أو حتى في تقرير تليفيزيوني. كاميرا متحرّكة، محمولة، كأنما لا يدري حاملها أين هي ذاهبة ترافق شخصيات تعبر فضاء يصعب تحديده، تخترق الفضاء في محيط لا قدرة لآلة التصوير على التعرف عليه.
منذ البدء يرتبك المشاهد من جرّاء صعوبة تأصيله للشخصيات في مكان واضح المعالم. كأنّما هي بين السماء والأرض. لكلّ واحدة من الشخصيات الرئيسية الثلاث تاريخ منه نعلم القليل ونجهل الكثير. عائلات ممزقة، أبناء مفقودة أو غائبة. حتى الشخصيات التونسية التي يفترض أنها في وطنها تشكو انقطاعا عائليا وثقافيا.
طبعا الشريط يروي قصّة المهاجرين الأفارقة السّود وهم في تونس: الإشارات عديدة عن وضعهم هنا إنسانيا واجتماعيا وسياسيا. ولكن المسألة تتجاوز بكثير الإثارة الاثنولوجية مخترقة بفضل تفرد التمشي السينمائي طبقات عديدة من الدّلالات الاأنتروبولوجية الكونية.
أريج السحيري، سينمائية لا بدّ، من هنا فصاعدا، أخذها في الاعتبار...